٣٠ يونيو وما بعدها (الحلقة الأولى)
لا يكون الواحد منا متجنياً إذا قال إن النظام السياسي الذي أسسه الإخوان، أو قل تأسس نتيجة للمسار الانتقالي الذي قاده المجلس العسكري ثم الإخوان المسلمين، قد ولد ميتاً، وإن هذا النظام الجديد الذي يحمل الكثير من ملامح النظام القديم قد ولد حاملاً لكافة أزمات دولة مبارك المترهلة غير الكفء والمهترئة مؤسسياً، وأنه قد بدأ من حيث انتهى مبارك في مواجهة تجليات أزمة اجتماعية متفاقمة، وسيولة سياسية لم تمتص بعد من قبل أي ترتيب مؤسسي رغم توالي الاستفتاءات والانتخابات وتعدد إجراءات القمع والترويع من السلطة الحاكمة.
في صبيحة اليوم التالي لإقرار أول دستور مصري بعد ثورة يناير خرج الرئيس محمد مرسي ليعلن انتهاء المرحلة الانتقالية إذ أصبح للبلاد دستور دائم ورئيس منتخب وبرلمان يضطلع بأعمال التشريع. وبحكم نص الدستور في أحكامه الانتقالية نقلت صلاحيات التشريع كاملة لمجلس الشورى لحين إجراء انتخابات مجلس النواب). فهل انتهت المرحلة الانتقالية حقا؟ يطرح هذا المقال هذا السؤال بعد مرور ما يقارب السنة على انتخاب الدكتور محمد مرسي وما يزيد عن ستة أشهر من دخول دستور الإخوان حيز التنفيذ فهل انتهت المرحلة الانتقالية حقاً؟ ربما تكون الثورة قد أجهضت حينما انتقلت السلطة إلى تحالف واسع يضم الجيش والمخابرات والشرطة وطبقة سياسية يغلب عليها الإخوان . وقد تكرس هذا التحالف لذات المؤسسات القمعية التي تخص نظام يوليو، والتي تقوم على إنكار أية مساحة حقيقية للحريات المدنية والنقابية وحرية الإعلام والتعبير والحق في التنظيم ودور المجتمع المدني لصالح تصور غاية في الإجرائية للديمقراطية، لكنه لا يعدو كونه طقس متباعد الفترات يشهد حج الجماهير للصناديق كل عدة سنوات فحسب، وهو تصور أقرب للسلطوية المنتخبة منه للديمقراطية الموضوعية بأي حال .
بيد أن مشكلة الإخوان ليست في سلطويتهم، ولا هي في تأرجحهم بين الثورة والثورة المضادة كما وصف الوضع من قبل شريف يونس في كتاباته، إذ أن الإخوان قد انتقلوا بالكامل من معسكر الثورة إلى الثورة المضادة، وتم تعميد هذا الانتقال في دستور الغرياني ـ شاهين (نسبة للجنرال ممدوح شاهين ممثل الجيش في الجمعية التأسيسية للدستور) وهو الدستور الذي كتب على عجل في خضم أزمة سياسية هي الأعنف في تاريخ البلاد الحديث عقب إصدار الإعلان الدستوري في نوفمبر ٢٠١٢ . أتى دستور الغرياني كتعديل مشوّه لدستور ١٩٧١، وهو دستور أبقى على كافة الأعمدة السلطوية للدولة في مواجهة المجتمع منكراً للحقوق والحريات المدنية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية، ومكرساً لنظام رئاسي شديد المركزية على حساب الحكم المحلي من الناحية الرأسية وعلى حساب السلطتين التشريعية والقضائية من الناحية الأفقية. كما أسس هذا الدستور إمبراطورية مستقلة للمؤسسة العسكرية تضمن لها الاستقلال وربما الانعزال عن المجال السياسي حديث النشأة، والذي كان يرى الإخوان أن من المقدر أن يغلبوا عليه ما شاء الله، مع الإبقاء على المحاكمات العسكرية، وإزالة أية ضمانات ضد التعذيب والاعتقال الإداري. ونجح الإخوان في تمرير الدستور الذي كان يراد به أن يؤسس لتحقيق تحالف حاكم يقوده الإخوان ويضم في الصف الأول المؤسسة العسكرية والمخابرات والشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى ما ظهر منها وما بطن مضافاً إليه أولئك من الأزهر والسلفيين كشركاء صغار بجانب بعض الأحزاب الهامشية التي تدور في فلك الإخوان من خلال علاقات زبونية كالحضارة والغد والوسط وغيرها.
ومرر الدستور رغم أنف المعارضين، وتأسس النظام الجديد/ القديم بزعامة الإخوان، وأتم الإخوان انتقالهم للثورة المضادة بمعنى عملهم على ترميم ذات العلاقات الخاصة بالسلطة والثروة دون تغيير يذكر، والإبقاء على هيكل الدولة والاقتصاد كما هو، بل والإبقاء على ذات العلاقة بين الدين والدولة(وهو مصدر استبعاد اليمين الديني فيما بعد في عدد من القضايا).
تحالف سلطوي هش
إن هذا التحالف قد أثبت أنه هش وأنه قائم على توترات مستمرة، وهو ما رأيناه في إضراب الشرطة في يناير٢٠١٣، وتذمرها من لعب الدور الكامل في أداء الخدمات القمعية لصالح الإخوان، كما رأيناه في التوترات المستمرة بين المؤسسة العسكرية والرئاسة الإخوانية، والكلام المتواتر حول الانقلاب المحتمل أو المستبعد، وبين الإخوان والمخابرات العامة (تصريحات أبو العلا ماضي حول إدارة المخابرات لتنظيم من البلطجية والحديث عن تولي البلتاجي القيادي الإخواني المعروف لجهاز المخابرات بعد تطهيره) . ويضاف إلى هذا وذاك بالطبع أن الإخوان قد عجزوا عن استيعاب سلطات الدولة بالكامل في تحالفهم هذا، فما نجحوا في تحقيقه مع الجيش والمخابرات والشرطة كانوا قد فشلوا فيه مع المؤسسة القضائية، والتي لا تزال تخوض صراعات متعددة مع السلطتين التنفيذية والتشريعية الإخوانية. هذا على الرغم من أن القضاء في مجمله ركن ركين من أركان إجهاض ثورة يناير سواء في النيابة العامة (في فترة عبد المجيد محمود أو في فترة النائب العام الإخواني) أو في قضايا قتل المتظاهرين وقلب نظام الحكم والتضييق على المجتمع المدني والإضرابات العمالية وغيرها. ويمتد هذا الاضطراب نفسه إلى علاقة السلطة الإخوانية الجديدة بالأزهر في مسألة الصكوك مثلاً وعند حادثة تسمم طلاب الجامعة، ويتكرر الأمر بأشكال شتى مع الجهاز البيروقراطي بمجموعاته ومصالحه شديدة المحلية والتي تتصارع مع إعادة ترتيب الأوضاع لصالح الإخوان فيما يعرف بمصطلح الأخونة واستخداماته المتعددة لإجهاض أي تحرك من قبل السلطة الحاكمة في مواجهة الجهاز الإداري للدولة.
النظام الجديد سلطوي وفاشل كسابقه
إن ما ورثه الإخوان من نظام مبارك، أو لنقل نظام يوليو، ليس فحسب سلطوي في علاقته بالمجتمع، وتركيبة التحالف الحاكم بل يمكن اعتباره فاشلاً كذلك. والمقصود بالفشل في هذا الصدد هو عجز الدولة باعتبارها السلطة الممثلة للصالح العام عن إدارة شؤون المجتمع باستخدام أدوات القهر القانوني، الذي يجسد سلطة الدولة ويميزها عن غيرها من المؤسسات الاجتماعية الأخرى. كما يمكن الحديث عن فشل النظام الجديد/القديم في أربعة أركان، وهي العناصر ذاتها التي واجهها نظام مبارك في سنواته الأخيرة من الحكم، والتي قادته نحو ثورة يناير ٢٠١١ ألا وهي :
أولاً،العجز عن إدارة أزمة اقتصادية متفاقمة. ثانياً، العجز عن استيعاب الاحتجاج الاجتماعي ـ الاقتصادي الظاهر في صورة إضرابات واعتصامات وتظاهرات غير مسيسة تطالب بتحسين ظروف المعيشة والأجر الحقيقي. ثالثاً، العجز عن استيعاب الاحتجاج السياسي المطالب بنظام يحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية ويتخلى عن القمع والاستبداد كأداة وحيدة للإدارة، وأما الملمح الرابع والأخير فهو العجز عن إدارة التحالف السلطوي الحاكم نفسه.
أولاً: أزمة اقتصادية تتفاقم
فأما عن الملمح الأول من الأزمة فيتجلى في وراثة الإخوان لأزمات مبارك في سنواته الأخيرة المتمثلة في عجز مالي كبير آخذ في الاتساع نتيجة عجز الدولة عن تقليص نفقاتها، نظراً للتكلفة السياسية الباهظة التي قد تتولد عن تخفيض الدعم وتحرير أسعار الوقود والغذاء على فقراء المدن والطبقات المتوسطة، وعدم القدرة على زيادة الإيرادات الضريبية نتيجة ضعف الدولة من الناحية الإدارية وعدم قدرتها على فرض ضرائب على رأس المال الكبير من الناحية السياسية. وأضف إلى المشكل المالي المتفاقم هذا مشكلات المرحلة الانتقالية، أو قل سوء الإدارة الشديدة من قبل المجلس العسكري ثم الرئاسة الإخوانية، والتي تمثلت في انخفاض معدلات النمو إلى درجة الانعدام (معدل النمو يساوي النمو السكاني منذ ٢٠١١ مما يعني أن دخل الفرد ثابت لا يتغير) وتراجع معدلات الاستثمار المحلي والأجنبي على حد سواء، والأشد خطورة هو تآكل الاحتياطيات الأجنبية بشكل مستمر حتى بلوغها درجة الخطر في ديسمبر ٢٠١٢، والذي توقف معه البنك المركزي عن توفير للحكومة ما يكفيها للحصول على الواردات الأساسية من الغذاء والوقود، وتوقفه كذلك عن دعم الجنيه ـ إلا في أضيق النطاقات بما يحول دون انهياره وما ينجم عن هذا من ضغوط تضخمية ذات أثر اجتماعي وسياسي بالغ.
وفي هذه المرحلة (أنظر بيان العقدة قبيل استقالته في ديسمبر ٢٠١٢) أصبح توفير الواردات الأساسية من وقود وعائدات إنتاج والتي تضمن استمرار الاقتصاد في العمل ولو بحد أدنى، مرهوناً بالتوسع في الاقتراض الخارجي لدعم العجز في الموازنة من ناحية، ولدعم الاحتياطيات الأجنبية من ناحية أخرى، خاصة وأن الجهاز المصرفي المصري لم يعد بقادر على توفير السيولة الكافية سواء المحلية أو الدولارية لسد الطلب الحكومي. وتكفي الإشارة إلى ارتفاع الدين الخارجي المصري بمقدار ١٢٪ بين يناير ويونيو ٢٠١٣ ليصعد من ٣٨ مليار إلى ٤٣ مليار دولار، وليزيد رصيد الدين الخارجي الإجمالي في السنة المالية ٢٠١٢/ ٢٠١٣ بعشرة مليارات دولار دفعة واحدة أي بما يناهز الثلث، وبعشرة أضعاف المتوسط الذي كان يستدينه مبارك (وهو مليار دولار في حدود خدمة الدين الخارجي). وتواكب مع هذا ارتفاع الدين الداخلي بمقدار ١٣٪ في الوقت نفسه، وذلك كله لتمويل عجز حكومي آخذ في التزايد، ومن المتوقع أن يتراوح بين ٢٠٠ و٢٣٠ مليار جنيه في نهاية يونيو الجاري أي بما يقارب ١٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
واجه النظام أحد احتمالين للخروج من مأزقه الاقتصادي الآني وهما إما توقيع قرض صندوق النقد الدولي، وما يتبعه من تدفق رأسمالي على هيئة قروض ومعونات من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وبنك التنمية والإعمار الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي وغيرها من المؤسسات المالية العالمية.
وهذا التدفق يكون مشروطاً بإعادة هيكلة مالية الدولة بتخفيض الإنفاق، وزيادة الإيرادات، و تخفيض سعر الجنيه، وهي كلها إجراءات ستؤدي على المدى المباشر إلى تخفيض مستويات المعيشة، وزيادة الأعباء التضخمية على الجمهور الواسع من سكان المدن سواء كانوا من الفقراء أو من الطبقات المتوسطة بما في ذلك موظفي الدولة وعمال القطاعين العام والخاص، وهم عماد حركة الإضرابات والاحتجاجات منذ عهد مبارك.
يرى الإخوان أن هذا الخيار مكلف للغاية سياسياً، ولذا فهو يترددون في توقيع قرض الصندوق، ويترددون في تنفيذ غالب القوانين التي مُرِّرت بزيادة الضرائب أو برفع أسعار المحروقات، وأما الطريق الثاني الذي اختار الإخوان سلوكه لانخفاض تكلفته سياسياً، رغم ارتفاعها اقتصادياً، هو الاقتراض الخارجي لتمويل النفقات الجارية، وهو ما يعد وصفة للإفلاس في المدى المباشر لأن الأموال المقترضة لا تولد عائداً استثمارياً يمكن الاعتماد عليه عند دفع أقساط وفوائد الديون المحصلة. ويبدو أن اعتماد الإخوان على المال السياسي من حلفائهم كتركيا وليبيا وبالأخص قطر (التي وفرت ٨ من ١٠ مليارات دولار تمويل خارجي) ليس مجاناً، إذ أنه أتى في صورة قروض وسندات وودائع وليس في صورة هبات أو منح أو معونات، وأتى بأسعار فائدة مرتفعة، وبآجال ليست ببعيدة على نحو يحملنا على اعتبار أن الإدارة للمأزق المالي والاقتصادي من قبل حكومة الإخوان كان مدفوعاً بتجنب إجراءات تهبط بشعبيتهم أو تعصف بنظامهم المضطرب في مواجهة حركة احتجاج اجتماعي/سياسي قد تأخذ شكلاً مركباً من انتفاضة يناير ١٩٧٧ ويناير ٢٠١١.
ثانياً: الاضطراب الاجتماعي مستمر
لا تكمن أزمة النظام الجديد في عدم قدرته على إدارة الشأن الاقتصادي والمالي فحسب، بل تتعدى إلى مسائل أكثر هيكلية وبنيوية تتمثل في عدم قدرته على استيعاب الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية التي أسهمت إسهاماً غير مباشر في تدمير نظام مبارك بعد تعدد مظاهر الإضراب والاعتصام والتجمهر في القطاعين العام والخاص ولدى موظفى الحكومة، وخروج هذا النمط الاحتجاجي إلى المجال العام منذ ٢٠٠٥. ولم يكن هذا النمط معبراً عن مطالب سياسية تمس بنية نظام الحكم أو سياساته العامة بقدر ما كان معبراً عن مطالب اقتصادية مباشرة كالأمان الوظيفي وزيادة الأجر الحقيقي الذي تدهور وانخفض انخفاضاً ملموساً لدى قطاعات عريضة نتيجة تسارع وتيرة التحول النيوليبرالي في ظل حكومة نظيف من ناحية، ومع ارتفاع أسعار الوقود والغذاء العالمية منذ ٢٠٠٦. إن هذا النمط الاحتجاجي كان سبباً أساسياً في تضاعف فاتورة الدعم وبند الأجور في سنوات مبارك الأخيرة بما زاد من العجز في الموازنة، وضاعف من الضغوط على الخزانة.
ونتيجة للطبيعة غير المسيسة لهذا النمط الاحتجاجي فإنه قد استمر بعد الإطاحة بمبارك بل واتسع نطاقه مع انفتاح المجال تماماً أمام شتى أشكال الاحتجاج من ناحية، ومع انهيار الدولة الأمنية من ناحية أخرى. وطبقاً لتقديرات بعض المراكز الحقوقية كالمركز الدولي للتنمية فإن معدل الاحتجاج الشهري ارتفع من ١٧٦ في ٢٠١٠ إلى ٢١١ شهرياً في ٢٠١٢ ثم ارتفع ارتفاعاً ملحوظاً إلى ٩٢٧ في ٢٠١٣. ومع الاختلاف حول تعريف الاحتجاج الاقتصادي والاجتماعي، وطريقة الإحصاء والرصد فإن الاحتجاجات"الفئوية" مستمرة بل وقد انتشرت إلى فئات كانت ساكنة حتى فترة طويلة كعمال السكك الحديدية وسائقي المترو وجنود الأمن المركزي علاوة على احتجاجات الأهالي في الأرياف وفي الأحياء الشعبية على انتهاكات الشرطة أو انهيار الخدمات العامة مضافاً إليهم ذوي الياقات البيضاء في الجهاز الحكومي كالأطباء والمعلمين الذين أعلنوا إضراباً عن العمل في الشهور الماضية. إن استمرار هذه الاحتجاجات يعني ببساطة شديدة استمرار الضغط المالي على الخزانة المنهكة أصلاً، ويعني كذلك عدم قدرة الحكومة على تطبيق إجراءات تقشفية تُحمِّل القاعدة الواسعة من المواطنين تكلفة إعادة الهيكلة المالية وتخفض من أجورهم الحقيقية التي تعاني بالفعل من الانخفاض في السنوات الماضية.
كان الكل يعلم أنه ما من حل مالي مباشر للمطالب الاقتصادية والاجتماعية لعدم توفر الموارد لهذا، وكان الأمل معلقاً على التوصل لحلول سياسية في صورة ترتيبات مؤسسية مع النقابات الممثلة لأصحاب المصلحة لوضع جداول على المدى المتوسط لرفع الأجور بما يراعي التضخم وضعف إمكانيات الدولة المالية، بل إن المخرج الوحيد المتاح، في ظل غياب القدرة على قمع أصحاب المطالب الفئوية، هو وضع ترتيبات سياسية لما بعد مبارك تمثل أطراً لحل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، والإيحاء مجرد الإيحاء لأصحاب المظالم أن ثمة أملاً في المستقبل. إلا أن دستور الغرياني أتى على هذه الآمال تماماً لصالح التأكيد على تنكر الدولة لأي التزامات تضمن تحسين الأحوال المعيشية للفئات الأكثر احتجاجاً، وهو أمر لاقى معارضة بالفعل من الفئات الواعية بمصلحتها كالمحلة الكبرى التي تعد مركزاً تقليدياً للحركة العمالية ولقطاع الغزل والنسيج، والتي صوتت بكثافة ضد دستور الإخوان مع باقي المحافظات الغربية ذات الكثافة الصناعية في طنطا وكفر الزيات، وكلها من كبرى مدن الدلتا وأكثرها نشاطاً اقتصادياً.
خلاصة الأمر أن الشق الاحتجاجي الاقتصادي والاجتماعي الذي انطلق ضد مبارك لا يزال عاملاً وبنشاط أكبر من ذي قبل، وهو ما يضع ضغوطاً سياسية واقتصادية كبيرة على النظام الجديد في ظل غياب أية أدوات فاعلة للقمع الواسع لهذا النمط الاحتجاجي، وفي ظل غياب موارد مالية لإرضاء أطرافه، وكذلك في ظل غياب أطر مؤسسية ممثلة في نقابات أو اتحادات أو جمعيات تصلح للتوصل إلى اتفاقات بعيدة المدى للمطالب الآنية.
ثالثاً: الجيل الثاني من حركات الاحتجاج السياسي
وكما أظهر النظام شللاً وعجزاً عن استيعاب الاحتجاج الاقتصادي والاجتماعي فإنه فشل كذلك في استيعاب الاحتجاج السياسي ذاته الذي انطلق ضد مبارك منذ ٢٠٠٤. كان النظام السياسي، الذي شرع الإخوان في التفاوض مع المجلس العسكري من أجل رسم ملامحه منذ استفتاء مارس ٢٠١١، يقوم على فهم ضيق للغاية للديمقراطية لا يتجاوز إجراءات الانتخاب دون وضوح أية التزامات حقيقية تمس الحقوق والحريات المدنية والسياسية الأخرى، بما فيها حريات التعبير والنشر والتنظيم سواء في جمعيات أهلية أو نقابات. وبما أن المجال السياسي المحافظ هذا، الذي سعى المجلس العسكري للتفاوض من أجله مع الإخوان، كان كفيلاً بانتقال زمام الأمور إلى المجموعات ذات رأس المال الأكبر سواء تنظيمياً أو مالياً أو ثقافياً، فإن غلبة الإخوان المسلمين على المجال كانت محسومة سلفاً، مع اختلاف تقدير هذه الغلبة، وعدم تصور العسكر أن يصل الأمر إلى اكتساح التيار الإسلامي مجتمعاً ما يقرب من ثلاثة أرباع مقاعد برلمان ٢٠١١.
بيد أن الصراع القصير بين المجلس العسكري والإخوان كان قد انتهى لصالح الأخيرين بفوز محمد مرسي بالرئاسة وإطاحته بالمجلس العسكري الموروث من أيام مبارك كما سبقت الإشارة، ثم المضى قدماً بإقرار دستور الغرياني في خضم أزمة سياسية هي الأعنف منذ الإطاحة بمبارك. ورغم الاستقطاب الشديد والعنف في الشارع تم تمرير الدستور المقيد للحريات والحقوق بصورة تضمن تمليك المجال السياسي الجديد للإخوان ولحلفائهم لفترة طويلة مقبلة، وتضع حد السيف على رقاب المجموعات السياسية المعارضة التي طمعت في أن تجد لنفسها بقعة تحت الشمس بعد الإطاحة بمبارك، وأصبح المشهد منذ ذلك الحين هو ذات مشهد الاحتجاجات صغرت أم كبرت على الإعلان الدستوري في نوفمبر ٢٠١٢، ومرجعه أن طيفاً واسعاً من السياسيين والائتلافات والمجموعات الشبابية والثورية لا يجدون لأنفسهم مكاناً في المجال السياسي الذي تلا الإطاحة بمبارك من ناحية، ولا يجدون أن النظام السياسي الجديد قد حمل جديداً في مجال الحقوق والحريات التي ناضلوا من أجلها من ناحية. بل أتى إليهم بسلطوية منتخبة فحسب تدعي أنها أكثر شرعية من سابقها وإن كانت صورة طبق الأصل لممارساته.
وهكذا أعيد إنتاج حركة الاحتجاج السياسي التي كانت موجودة ضد مبارك لتكون هذه المرة في مواجهة الإخوان. وهذا ملمح رئيسي من ملامح أزمة النظام الإخواني أنه قد نجح في إخراج طائفة واسعة من الفاعلين السياسيين من المجال السياسي الجديد بما يجعلهم يراهنون على هدم المعبد على رؤوس الجميع سواء بالاستثمار في الاضطراب السياسي والأزمة المستمرة بغية إحداث هزة واسعة تأتي بالجيش مرة أخرى للسلطة، أو بتهيئة المشهد مرة أخرى لانتفاضة شعبية ضد النظام الجديد. وما التمرد في هذا السياق إلا تجل واضح للجيل الثاني من الاحتجاج السياسي الذي يتخذ من تأزيم الموقف بإخراج الاحتجاج للمجال العام بكثافة مدخلاً لتصديع التحالف السلطوي الحاكم على هشاشته، ولإظهار الإخوان كطرف عاجز عن إدارة البلاد بالكامل، وأنه قد تحول لقمع الثورة بدلاً من تحقيق أهدافها.
رابعاً: تلك الدولة المستعصية على الإدارة
أما الملمح الرابع للأزمة فقد سبق ذكرها وهو عجز دستور الغرياني ـ شاهين عن إدارة العلاقات داخل التحالف السلطوي الحاكم وهو ما رأيناه في تعطيل المحكمتين الدستورية والإدارية للانتخابات النيابية، ولصدور قانون الانتخابات وقانون مباشرة الحقوق السياسية، كذلك تعطيل الأزهر لصدور قانون الصكوك، وكلها مثالب خرجت للعيان بعد أقل من ستة أشهر من إقرار الدستور الجديد، وكلها تنم عن إقرار الدستور لآليات لا تعمل حقا، وعرضة لأزمات متعددة في المستقبل، ولعل حديث نائب رئيس حزب الإخوان عصام العريان عن تعديلات دستورية للدستور قريب العهد بالإقرار، والذي وُصِف بأنه أعظم دستور في العالم من قبل بعض واضعيه، هي شهادة وفاة مبكرة للدستور الإخواني بمحتوياته وترتيبات السلطة والنظام السياسي الجديد/القديم. وهو ما ذهب إليه أهم المتابعين للشأن المصري مثل ناثان براون وعمرو عبد الرحمن في عدد من التحليلات.
الخلاصة
طالما كان وجود الإخوان وتصدرهم المشهد السياسي سبباً في صعوبة الفصل بين معسكرات الثورة والثورة المضادة، وذلك لأن قيادة الإخوان الحالية اتخذت منهجاً واضحاً منذ سقوط مبارك للاندماج في النخب الحاكمة العسكرية والاقتصادية، وهو التفاوض مع المعسكرين معاً، ومحاولة إتخاذ موقف وسط، وكان دستور الغرياني ـ شاهين هو التعميد الحقيقي لانتقال الإخوان بالكامل لمعسكر الثورة المضادة كما سبقت الإشارة. بيد أن هذا لا يعني أن الإخوان يحكمون تحالفاً مستقراً أو منضبطاً بناء على قواعد ومصالح واضحة المعالم، فهم لا يزالون يلقون مقاومة من الدولة ومن القضاء، وعلاقتهم متوترة بالجيش والمخابرات والشرطة، ولا يملكون أدوات قمعية تبرر ميولهم السلطوية الغريزية التي ظهرت في قوانين النقابات والجمعيات والحديث عن الإعلام والمعارضة والحق في التظاهر وغيرها من ملفات الحريات والحقوق.
ولكن مأزق الإخوان في تصوري لم يعد حيرتهم بين الثورة والثورة المضادة لأن الثورة قد تم إجهاضها وتصفيتها رغم استمرار الضغط من الأسفل، ولكن بشكل غير كافٍ لتغيير كامل في الأوضاع. إن المأزق الآن هو عجز الإخوان عن إدارة معسكر الثورة المضادة، وعدم قدرتهم على تكوين طبقة سياسية/إدارية يمكن الاستناد إليها لحكم البلاد، إذ أن أهل الثقة من أبناء الطائفة الإخوانية عادة ما لا يملكون خبرة أو كفاءة رغم انقيادهم الكامل لمكتب الإرشاد أو لمن يتحكم فيه وفيهم، بينما أهل الخبرة سواء داخل جهاز الدولة أو في الطبقة السياسية غير الإخوانية فليس لهم سوى أدوار بائسة هامشية كما يظهر في شخص رئيس الوزراء ووزرائه من غير الإخوان. ويأتي هذا مع انعدام للخيال السياسي، وارتباط فرص الإخوان في الحكم بتحييد قلب نظام يوليو من أجهزة أمنية وبيروقراطية عسكرية وما يرتبط بها من مصالح اقتصادية (أنظر سيل التصالحات مع رجال الأعمال الكبار( وهو ما يربط الإخوان ببيروقراطية فاسدة ومستعصية على الإصلاح وفاشلة في الوقت نفسه، وغير موالية لهم كذلك، وتعرضهم للنقد والتجريح من الأطراف الثورية التي لا تزال تملك القدرة على التأليب ضد الإخوان اعتماداً على أدائهم الضعيف والتردي المستمر في الأوضاع المعيشية. ولا شك أن جوهر الإشكال يتمثل في عدم قدرة أو رغبة الإخوان ـوهم طائفة دينية محافظة في التحليل الأخير على حد توصيف الراحل حسام تمام ـ في الرهان على صيانة دولة يوليو بصيغتها السلطوية، ودولة مبارك بانحيازاتها النيوليبرالية، وهو ما يعني وضع الحكام الجدد في مواجهة نفس القوى التي واجهت مبارك في سنوات حكمه الأخيرة سواء المسيسة (الحركات الاحتجاجية والشبابية) أو غير المسيسة (الإضرابات العمالية والاحتجاجات الأهلية) ولكن بأدوات مالية أقل (فقد كان مبارك قادرا على التعايش مع أزمة الدولة المالية المزمنة) وبأدوات قمعية أقل (كان مبارك يتمتع بولاء الشرطة والجيش والمخابرات) وهو ما يجعل الإخوان أقرب إلى أن يكونوا آخر فصول النظام القديم بدلاً من أول فصول نظام جديد بعد ثورة يناير .
كانت هذه هي الحلقة الأولى من حديثي مع الشيطان، أما الحلقة الثانية فسوف تستطلع مسارات الخروج من المأزق باحتمالاتها الدستورية والثورية والانقلابية، وبعواقبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
[اضغط هنا للجزء الثاني من مقال "حديثي مع الشيطان".]